كالدو..
إعداد: لينا عبدالله المحاميد
قصة أيقظتني شجرة
في يومٍ قائظ من أواخر شهر حزيران ، في قريةٍ قليلةُ السكان يحدها غابة كثيفةُ الأشجار، كان الحطاب )بهيج( ــ أو الذي يُفترض أن يكون حطابًا فهو لم يحتطب شيئاً بعد منذ أن اتخذ ال قرُشة )1( مهنةً من والده الذي توفي منذ مدة قصيرة – متسمرًا بجانب شجرةٍ حاملًً فأسه وقد ضرب جذع الشجرة بضع ضرباتٍ مسلوبة الطاقة والقوة ؛ فلم تُ ج د نفعًا ،فيأس وهمَّ بالعودة إلى المأوى خالي الوفاض.
كان بهيجٌ شابًا صفيقًا غير مبالٍ ، قصيرُ القام ة كثُ الشعر، جسمه ممتلئ لحيم وله كرشٌ مستدير كأنما ابتلع بطيخةً دفعةً واحدة، وصل الكوخ حيث يقطن وضرب الباب الخشبي بقدمه متذمرًا من صعوبة العمل ، حين سمعت أمه خبطَ الباب، فالتفتت نحوه قائلة: عُدتَ كما كلّ يوم آه، بخُفيّ حُنين ، ما بالك آه؟
ماذا تعتقدين، إن العمل صعب وُمُرهق... . قاطعته قائلة: لا تُكمل فلقد بلغني الأسى منك، لم تُدخل قرشًا واحدًا على البيت منذ أن توفي والدك، والطعام يكادُينفذ والمؤونة تكادُ تنضب. ملأ الحزنُ عينيها والتفت غمامة الهمِّ على قلبها وهي ترى بلًدة ابنها وكسله، فهو لا يسأل إلا عن الطعام ولا يبالي بالكدِّ والعمل.
آه يا ربي ما هو مصيرنا وابني على هذه الحال، لم أعد احتمل وأنا في سنٍ قد وخط االشيبُ شعري وهزُلَ جسمي . ) تفكر قائلةً في نفسها وهي تحيك قش الصنوبر بيداها التي رسمت عليها التجاعيد خارطة الألم والمعاناة لتصنع سلًلًا تبيعها بثمنٍ بخس فتشتري به ما يسد رمق الجوع. جلس بهيجٌ على كرسيٍ قديم بجانب طاولةٍ مستديرة كان قد وُضع عليها رغيفان من الخبز اليابس وقصعةُ حساء، نظر بتجهم بعينين جائعتين تريدان التهام ما حولهما وقال: ولكن أين الدجاج؟ أين اللحم؟ ... التفتت الأم نحو ابنها ودمعةٌ قد ترقرقت في غور عينيها ولم تتكلم بشيء فقد تملكها اليأس منه ثم شخصت ببصرها نحو سقف الكوخ الذي تهاوى جزءٌ منه فتسللت عبر فتحاته أشعة الشمس.
صباح اليوم التالي أيقظت الأمُ بهيجًا قائلةً : هيا فقد بزغت الشمس، قمْ فاسعَ . آه ما هذا الصباح أشعر بالتعب،) قالها بهيجٌ وهو يقوم متثاقلًً من فراشه( وبعد ما يقارب الساعة أخذ فأسه ومشى بخطواتٍ ثقيلة نحو الغابة حيثُ الأشجار ثم توقف بجانب شجرةٍ شاهقة، شعر وكأنما تناديه كي يقطعها فرفع فأسه وبدأ يضرب جذعها ولم يكمل بضع ضربات حتى تهاوت بعض أوراقها ساقطةً على الأرض وما لبثت حتى أصفرّ لونها بعد أن كانت خضراء يانعة. قال بهيج بصوتٍ مرتجف: كيف هذا أوراق صفراء ونحن في حزيران، ثم شخص ببصره نحو الشجرة ليتأكد من لون أوراق الشجرة فإذا هي خضراء مُدْهامة كلون عشبٍ في فصل الربيع.
كيف هذا لا بدَّ أنني ما زلتُ أحلم، نعم أنا نائم يبدو أن من شدة كسلي أصبحتُ أمشي نائمًا، ثم قهقه ضاحكًا... فقاطعت ضحكته صوتٌ أجش ينبعثُ من الشجرة: أصابتك لعنةٌ تؤدي إلى هلًكك وعددُ ما تبقى لك من الأيام في هذه الحياة هي عدد الأوراق الصفراء. خطف بهيج بصره نحو الأوراق الصفراء الملقاة على الارض وعدّها بارتباك فإذا هي ثلًثة أوراق وهمهم بوجل: ثلًثةُ ايام... .
: القرُشة: هي مهنة جمع الحطب وبيعه.
أسرته الدهشة وكبل قدماه الخوف فلم يعد يستطع الحراك. تابع ذلك الصوت الأجش: يمكن ان ترفع اللعنة عنك بطريقةٍ واحدة؛ أن تأتي كل يوم من الأيام الثلًثة القادمة صباحًا فتجدُ شيئًا هنا وعليك استخدامه بشكلٍ صحيح فإذا أتممت الثلًثة أيام وقد استخدمت ما وجدت بطريقة صحيحة نجوت.
ولكن، آآآه آآآه كيف أعرف أنني استخدمتها بشكلٍ صحيح. أجاب ذلك الصوت: الأوراق الصفراء هي الدليل إذا عادت جميعها خضراء فقد نجوت. جلس بهيجٌ برهةً من الوقت في مكانه غير قادر على الحراك، جمع الأوراق الصفراء ووضعها في جيبه، ثم تمالك قواه واستجمع ما بقي منها لتعينه على الرجوع إلى الكوخ وما إن وصل إلى حيث يقبع الكوخ الذي يقطن فيه لم يجد شيئًا وكأن عاصفةً مرّ ت فاقتلعت الكوخ من مكانه، ثارت في نفسه ريبةٌ أنه قد أخطأ الطريق لولا أن وجد أمه ملقاةً على الأرض وقد فقدت وعيها، هرع إليها وأخذ يحاول إيقاظها ولكن دون جدوى.
أمي، أمي أرجوك استيقظي، ما بك؟ أخذت دموعه تسيل على خديه بحرارة وهو يحتضن رأس أمه بين يديه لعل دموعه تفديها فتفيق من غيبوبتها
،ثم قال: سامحيني يا أمي، أشعر بأن الله يعاقبني على معاملتي ل ك، آخ أنها لا بدّ أنها الشجرةُ اللعينة.
استسلم جسده للتعب وغرق في النوم محتضنًا أمه ، وفي صباح اليوم التالي – أو اليوم الأول من الأيام الثلًثة إن صحّ القول ــ أيقظ ضوء الشمس بهيجًا بعد أن داعب عينيه فلً سقف يأوهما، تذكر بهيجٌ ما حصل وسرعان ما أن همّ بالذهاب إلى الشجرة ،ولكن...
كيف سأترك أمي هنا وحدها فاقدةً الوعي، أخاف عليها من الأفاعي والبواهش. حمل بهيجٌ أمه على ظهره ومشى متقوقعًا نحو الشجرة، وما إن وصل مدد جسد أمه بجانب الشجرة وأخذ يلقط أنفاسه ثم راح يجول ببصره باحثًا عن شيءٍ ما حول الشجرة فلم يجد أحاط به الإحباط وملأ الفزع جسده .
ولكن ماذا الآن ماذا أيتها الشجرة....؟ قالها بغضب وبيأس. بهيج يا بني، ماذا نفعل هنا؟ أمي قد أفقتي أخيرًا. أفقت ماذا تقصد ولماذا نحن هنا؟ ملأت دموع الفرح عينا بهيج ،وقفز مقبلًً يدا أمه، ثم قال: سامحيني يا أمي، أرجوك سامحيني. أجابت أمه:
أسامحك على ماذا ؟
سأروي لك ما حدث في طريق العودة، أجاب بهيج. وصلً إلى حيثُ مكان الكوخ- دون وجوٍدٍ له- وسارع بهيج يلملم بعض الأغصان والأخشاب ليصنع عريشة تقيهما من حرّ الشمس قبل أن يهبط الليل ويجنح الظلًم، ومع ساعة غروب الشمس كان بهيجٌ قد أنهى ما بدأ به ،ثم جلس مستريحًا على صخرةٍ بالقرب من العريشة وسرح بأفكاره حيث أخذته بعيدًا وفجأة تذكر الأوراق الصفراء في جيبه فأخرجها على الفور فإذا بإحدى الأوراق الثلًث قد أصبحت خضراء ،....
آه خضراء ولكن كيف ، أيعقل؟ نظر إلى أمه وأدرك أن بره بها وخوفه عليها بحملها على ظهره جعل أحد الأوراق خضراء .
في صباح اليوم الثاني )من الأيام الثلًث( كانت الأم قد استيقظت منذ الفجر فلم تستطع النوم في عريشة جدرانها مفتوحة ، نادت على ابنها وقالت: ألن تستيقظ يا بهيج لترى أمر الشجرة
نعم، نعم إنني ذاهبٌ الآن. أنا سأذهب لأبيع السلًل التي صنعتُها ليلة البارحة. حسنًا يا أمي. مشى بهيج بخطواٍتٍ مسرعة نحو الشجرة وما إن وصل حتى وجد ما استغربه فتوسعت حدقتا عينيه ليبصر ما يرى
انه فأسٌ ذهبية ولكن ماذا أفعل بها ، إنها تساوي ثروة، إن بعتها سأعيش ملكًا طوال حياتي . خُطفتْ خيالاته اللذيذة ما إن تذكر ذلك الصوت أن عليه استخدام الأشياء على نحوٍ صحيح وإلا لن يكون هناك حياةٌ أصلًً، فقرر أخذ الفأس ليحتطب به .وبحلول الساعة الخامسة مع غروب الشمس كان قد جمع رزم خشٍبٍ كثيرة ،واختفى الفأس الذهبي مع غروب الشمس وكأن أشعة الشمس الذهبية قد سرقت الفأس الذهبي معها.
ذهب بهيج إل حيثُ يُباع الخشب، ثم أهمّ بالعودة إلى حيث العريشة وفي يده صُرّة نقود لم يعهد حملها يومًا وقد ارتسمت ابتسامة واسعة على فيه.
ما هذا ؟ كيف أتى هذا الكوخ البارع في الجمال متقن الصنع إلى هنا )قال بهيج مستغربًا(
بهيج، أهذا أنت انظر إلى هذا الكوخ الجميع يا بني، لقد تفاجأت به بعد عودتي من بيع السلًل. لقد احتّلّ مكان العريشة كوخٌ جميلٌ فسيح يبدو أن بهيجًا قد نجح في استعمال الفأس اليوم وها هو بهيج ُيُخرج الأوراق من جيبته فإذا بورقٍةٍ أخرى أصبحت خضراء .
نام بهيج وأمه على فراشٍ مريح وأكلً أطيب الطعام بيد أن بهيجًا ما يزالُ الخوف يأسره والقلقُ يتملكه؛ فغدًا اليوم الحاسم فإما أن يعش وإما أن يكون آخر أيامه.
في صباح اليوم الثالث) من الأيام الثلًث( قام بهيج من فراشه )لم تقّرّ عينه بالنوم وهو يفكر( وسار إلى مصيره إلى الشجرة وحينما وصل وجد ما هو أكثر غرابة تُرى ماذا يفعل بها؟
سلةٌ ممتلئة بالفاكهة، ماذا أفعل بها؟ أخذ يفكر بهيج برهةً من الوقت وبعد أن مضى قرابة الساعة تناول حبة فاكهة من السلة وأكلها ... آه لم أتذوق أطيب منها يا لطعمها اللذيذ الغريب. وما إن أكمل تناول الفاكهة حتى شعر بأن قواه قد ُسُلبت منه وشعر بوخز يجري في عروقه فظن أنها النهاية ،
حمل السلة ووقف وقرر أن لا يستسلم لآخر رمق، فأخذ يصفق في طريقٍ مهيع لا يدري ما نهايته، حتى رأى عجوزًا جالسًا على صخرةٍ مرتكيًا على عصا يحملها بيده وقد زحف الصلع نحو شعر رأسه فلم يبق منه شيئًا وله لحيةٌ بيضاء شعثة. وحوله أطفالٌ يبكون، اقترب بهيج منهم وسأل باستغراب : ما بالهم يبكون؟ ولم ُيُكمل بهيج سؤاله حتى انقّضّ الأطفال على السلة التي كانت بيد بهيج صائحين :طعام، طعام. أعطاهم بهيجٌ السلة بحبٍ وعطف وما مكث أن شعر بأنه استعاد قواه وكأن شعلةً من النشاط قد أوُقدت بداخله.
أيعقل؟ قال بهيجٌ فرحًا وهو يُخرج الأوراق فإذا هي جميعها خضراء يانعة. لم تكن تلك الشجرة لعينة بل هي هبة أيقظت بهيج وجعلت منه إنسانًا بارًا بأمه جادً ا في عمله مساعدً ا لغيره.