كالدو..
المملكة المغربية: نزهة الادريسي
الثالث من أيار/مايو من سنة 1993هو اليوم الذي أعلنت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة اليوم العالمي لحرية الصحافة، وذلك على أثر توصية موجّهة إليها و اعتمدها المؤتمر العام لليونسكو سنة 1991. وهو مناسبة لإعلام الشعوب بانتهاكات حرية الصحافة و الرقابة اللا مشروعة التي تمارَس على المنشورات، والناشرين والغرامات التي تفرض عليهم أو تعليق اصداراتهم ، وغلَق دور النشر، إضافة لتسليط الضوء على ما يلقى الصحافيون والمحررون والناشرون من المضايقات والاعتداءات والاعتقالات وحتى الاغتيال في حالات متعددة .
ن كان هذا اليوم مناسبة لتذكير الحكومات بضرورة احترام التزاماتها بقوانين حرية الصحافة و تسهيل مهمة الصحافيين و العناية بأحوالهم الاجتماعية و توفير الحماية لهم حتى يستطيعوا أداء مهامهم في أحسن الظروف . هو أيضا بمثابة وقفة تأمل من طرف مهنيي الصحافة من أجل مراجعة النفس و تقييم الأداء و مدى احترامهم لأخلاقيات المهنة و التزامهم برسالتها فيما يخص أمانة تبليغ الخبر و تنوير الراي العام .
فإن كنا متفقين و متضامنين مع كل المطالب المشروعة للصحفي لدى الحكومات و الهيئات فإننا نطالب أيضا من كل مهنيي الصحافة بمختلف شرائحهم أن يقفوا وقفة تأمل في هذا اليوم العالمي لحرية الصحافة مع أنفسهم و يمارسوا حملة تطهير جريئة داخل بلاطها . فمنذ اليوم الذي تعددت فيه وسائل التواصل الاجتماعي و القنوات الحرة خاصة الفضائية ، عرف بلاط صاحبة الجلالة الكثير من المشاكل و الهموم أضخم من التي تعاني منها من أطراف خارجية ، بل أضحت هذه الفضائيات وبالا على الصحافة و الاعلام في العالم أجمع ، إذ حولت الصحافة أداة لاستفزاز بعض الانظمة أو التيارات و التكتلات الفكرية أو الدينية و المذهبية و المؤسسات أو الاشخاص ، كما حولت الصحفي لمرتزق يعمل لصالحها حتى وإن أدى الأمر لتزييف الأخبار أو تسليط كامرته من الزاوية التي تخدم الجهات التي تدفع له راتبه ، و بالتالي يتورط في اخبث عملية لتضليل الراي العام بدل تنويره .
في زخم الأحداث التي نراها اليوم صارت الحقيقة هي الحلقة المفقودة ، قد يجدها الانسان العادي لو تدبر سبيلها بمجهوده الخاص و يفقدها المتلقي الذي يقبع أمام الشاشات ، لأن الصحفي لم يعد يتمتع بالاستقلالية و الحرية و يمارس عمله بحيادية و ينقل الخبر بأمانة ، بل صار مأجورا رهين مصلحة من يدفع له تماما كالمرتزق الذي يحمل السلاح ويقاتل من أجل المال مغامرا بحياته و سلامته في معركة خالية من كل مبادئ النبل و الفروسية .
بل ربما كان ما يقترفه الصحفي أفظع مما يقترفه المرتزق بسلاحه الناري ، فهذا يمكن أن يقتل أفرادا ، أما الآخر فيساهم في قتل شعوب بأكملها عندما يزيف الحقيقة أو يبتر الخبر و يعيد صياغته حتى يستقيم مع الغرض الذي تبتغيه الجهة التي أرسلته . ونحن نلاحظ هذا على جميع الساحات المشتعلة أو التي تعرف توترات سياسية ، إذ تنهال علينا الأخبار بشتى الألوان و الاشكال ، و السيناريوهات و التخريجات حسب جهات البث و مدى قدرتها و تفننها في العبث بالخبر و تزييفه حتى تقنع به المتلقي و تصل للهدف المنشود الذي يكون غالبا ضد سلامة و استقرار الشعوب .
و ليس أدل على ذلك من المصير الذي آلت إله البلدان و الشعوب التي عرفت هزات سياسية و ثورات أو غزوات في السنوات الاخيرة من حرب أفغانستان و غزو العراق ، إلى حرب سوريا و ليبيا و اليمن و غيرها من الدول التي اكتوت بنار الحرب ... كلها انقلبت إلى ما يشبه حلبات مصارعة أو ملاعب لكرة القدم .. فرقاء في مبارزات حامية و متفرجين كل يشجع فريقه المفضل بكل حماس و إن كانت أدوات اللعب أسلحة فتاكة و المتبارين قتلى أو مقتولين وهذا الصحفي أو ذاك يتفنن في نقل الخبر و الأحداث بما يشبع رغبة فريقه أو يزيده تألقا و إقناعا للجمهور ، أما المهنية و المصداقية فلتذهب مع الريح ....
والأخطر هي تلك المصطلحات التي تروجها الصحافة مع الأحداث و الأوضاع في الساحات المشتعلة خاصة العربية ، و التي تحمل ايحاءات كارثية و مدمرة منها عبارة " جيش النظام " التي رافقت الحرب على سوريا لوضع الجيش في نفس مرمى النظام المغضوب عليه خارجيا و إثارة الشعب عليه لخلق توتر بين الشعب و جيشه حتى يسهل إضعافه و بالتالي إسقاط الدولة و عبارة " المعارضة المسلحة " رغم أن المعارضة الوطنية لا تحمل سلاحا لكن هنا لإضفاء الشرعية على المرتزقة المجندون من خارج البلاد للإطاحة بالبلد و خلق صراعات دموية داخل الوطن . ومازالت نفس العبارتين بمخزونهما المدمر تروج و تطغى على وسائل الاعلام العربية بكل دولنا التي ترزح تحت وطأة الصراعات الداخلية .
أما الحرب الدائرة اليوم بين روسيا و أوكرانيا فهي ساحة أخرى تكشف و تفضح إعلامنا و صحفنا العربية و مدى هجرهم للمهنية . فلا تتحفظ بعض وسائل الاعلام على كشف تحيزها لاحد اطراف الحرب أو ربما خطها الاعلامي لم يجد بدا من المضي قدما للأمام في الطريق الذي خط له منذ تأسيسه و لا يتورع في العبث بالخبر و الصورة حتى تستقيم مع الخط السياسي و نظام الدولة التي يتشبث بذيلها ...
الكل الآن يلعب على المكشوف ، أو ربما الأحداث أبت إلا أن تكشف من يزيف الحقائق من صحفيين و قنوات و مؤسسات اعلامية .و ليس هناك مهرب من تنظيف بلاط صاحبة الجلالة من كل المتسلقين و المنافقين و الكذابين حتى تستعيد صفوة خدامها الاوفياء للمصداقية و المهنية، ورسالتها الانسانية و الاخلاقية في تنوير الشعوب و المساهمة في صنع رأي عام يخرج شعوبنا من حيرتها و يقودها لبر الامان .