كالدو..
رهف محمد حنيدق كاتبة فلسطينية
كنت ما زلت إبنة العشرين ربيعًا عندما أهداني زميلي في كلية الهندسة في دمشق غسان خلف (وأرجو من الله أن يكون ما زال على قيد الحياة، وينعم بوافر من الصحة والسعادة) كتاب: “قصة الإيمان بين العلم والفلسفة والقرآن” لمفتي طرابلس نديم الجسر، طالبًا مني أن أقرأ الكتاب بتمعن: عندما لمس مني تدينًا وإلتزامًا وفكرًا.
أخذت الكتاب وبدأت بقراءته، كان كتابًا جميلًا رائعًا، فيه من الكلمات والمصطلحات ما عجزت عن فهمه وإدراك معانيه، كان كتابًا فلسفيًا، ضم في صفحاته أفكار الفلاسفة ونظرياتهم وأقوالهم على إختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وقناعاتهم، ولكن اتفقوا في النهاية أن هذا الكون لم يُخلق عبث، وأن لهذا الكون مُوجد، يتمتع بكل صفات الكمال والجمال. ولكن أكثر ما آلمني يومها أنني لم أفهم الكثير مما جاء فيه؛ لسبب واحد أنني لم أكن أملك الزاد المعرفي، فنحن لم ندرس الفلسفة يومًا، كما أن إختياري لدراسة الهندسة المدني وعشقي للرياضيات زاد تلك الفجوة، لتمر سنين العمر لأدرس تخصصًا إنسانيًا آخر، فأتخصص بالفكر الإنساني ولتكون رسالة الدكتوراه موضوعها: المذاهب الفكرية التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وكيف إستطاع اليهود اختراقها والتغلغل فيها أو حتى السيطرة على بعضها.
لتبدأ رحلتي مع الفكر، حيث بدأت بالفكر المادي الحسي والفلسفة الواقعية مرورًا بالعلمانية والوجودية والإنسانية لتنتهي بالعبثية والسريالية وما بعد الحداثة والوضعية المنطقية، ليتحقق حلمي يومًا الذي راودني كثيرًا أن أفهم جُلَّ ما يقوله الفلاسفة، وأن أستطيع فهم المبادئ والأسس والنظريات التي يقوم عليها علم الفلسفة، والذي كان جهدًا ذاتيًا بحتًا، والذي للأسف مُحرم تدريسها في بلادنا العربية، بدعوة أنه لا فائدة من دراستها، وأنها نقيضة الإيمان، وأنها لم تجلب لدراسيها ومعتنقيها إلا الشك والكفر والإلحاد، لأكتشف لاحقًا صدق العبارة: “إن الفلسفة بحر، على خلاف البحور، يجد راكبه الخطر والزيغ في سواحله وشطآنه، والأمان والإيمان في لجُجه وأعماقه”، أو بعبارة أخرى: “إذا كان قليل من الفلسفة يُبعد عن الله، فالكثير منها يردُ إلى الله”، لأعود إلى الكتاب مرة أخرى لأقرأه مرة تلو المرة لتصيبني سعادة غامرة أنني فهمت هذه المرة كل كلمة وردت فيه، فلله الحمد والفضل.
ولن أنسى مطلقًا تلك المحاضرة ولا ذاك النقاش الذي جرى بيني وبين دكتوري عندما قال: أن الفلاسفة كانوا كافرين مُلحدين وشكاكين، فاعترضت يومها على قوله، لأذكر له أن قوله يُخالف ما جاء في كتاب: قصة الإيمان بين العلم والفلسفة والقرآن، وأن كاتبه نديم الجسر جمع أقوال كبار فلاسفة العصور القديمة والوسطى والحديثة، التي تدل على إيمان مطلق، فكلفني أنا وزميلاتي بالبحث لتكون المحاضرة القادمة عرض نتائج مَنْ كان مؤمنًا ومن كان مُلحدًا من الفلاسفة.
لأعود للكتاب مرة أخرى، وأجمع أقوال الفلاسفة وأدونها على دفتري بالخط الكبير الأحمر، لتأتي نتيجة البحث كالتالي: أن كبار الفلاسفة وعظمائها كانوا مؤمنين موقنين بالله، من أمثال: فطاليس وانكسيمنس واكزنوفنس وهرقليط وسقراط أفلاطون وأرسطو وفيثاغورث وديكارت وباسكال ولوك وسبينوزا وكونت وكانط وباكون وبرغسون ولايبنز و… ولنختلف ونفترق عند ديفيد هيوم، الذي أوصل بحثنا عنه أنه كان شكاكًا مُلحدًا، بينما زميلة لنا قالت: بل تراجع عن إلحاده في آخر حياته، وأن الأقوال تضاربت فيه لأنتهي بنتيجة مفادها: أن كبار الفلاسفة وليس من هم عالة عليها، لم يكونوا إلا مؤمنين حقًا، وأنه من المُحال أن يتناقض العلم والفلسفة والقرآن، فقد إلتقى عباقرة المسلمين مع عباقرة الفلاسفة مع عباقرة العلم، فكان تلاقي العباقرة.