متابعة: عبدالقادر البياضي
مجلة كالدو- قد لا يكون خطر ببال الطفلة أنغيلا دوروتيا ميركل أو حتى والديها وهي تنشأ في مدينة تيمبلين بولاية براندنبورغ في بيت يمتزج فيه الدين مع دور الأم المربية، أن تصبح يوماً ما من أقوى الشخصيات القيادية السياسية في عصرها بل وفي عصور عدة، الأمر الذي دفع مجلة فوربس الأمريكية أن تتوجها خلال الأعوام الماضية بأقوى امرأة في العالم. فهي أول امرأة قادمة من شرق ألمانيا تتولى منصب المستشار باعتبارها زعيمة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، تمكنت من كسر العديد من الصور النمطية لتستحق لقب "ماما ميركل" كما يحب أن يلقبها الألمان و هو الإسم الذي جعل الكاتبة الألمانية جولي زيه تخصص لها قطعة مسرحية بعنوان "Mutti" أي "الماما".
نشأتها ودراستها:
ولدت أنغيلا في هامبورغ بتاريخ 17 تموز 1954 وكان اسمها ( أنغيلا دوروثيا كاسنر)، وترعرعت أنغيلا التي تعود في جذورها الى البولندية من مدينة بوسن حيث كانت الأسرة تعيش ، قبل أن تستقر في وقت لاحق ببرلين سنة 1930 وتغير إسمها الى إلى عائلة كازنر، في ظل والدها القس المنتمي للطائفة البروتستانتية ووالدتها التي المقتصر دورها على إدارة شؤون المنزل ورعاية "إنجي" واثنين من إخوتها الصغار. درست ميركل في براندنبورغ وحازة على شهادة الثانوية العامة سنة 1973 بتفوق، ثم إتجهت لدارسة الفيزياء في جامعة لايبزيغ وقد كانت بارعة في اللغة الروسية والرياضيات، كما إستغلت فترة الدراسة لتنضم لعضوية منظمة الشباب الاشتراكي. وإستكملت ميركل طريقها الدراسي بحصولها على شهادة الدكتوراه في مجال تفاعلات التحلل الكيمائي، وهنا 1977 تعرفت ميركل على زوجها الأول طالب الفيزياء أولريش ميركل والذي إنفصلت عنه عام 1982. وعادت المستشارة ميركل للزواج من جديد في عام 1998 من أستاذ الفيزياء الكم يواخيم زاور.
الحياة السياسية:
بدأت أنغيلا ميركل الإهتمام بعالم السياسة في أعقاب ثورات 1989 التي أطاحت بالدول الشيوعية في مناطق مختلفة في دول أوروبا الوسطى والشرقية والتي بدأت في بولندا من ثم في المجر وألمانيا الشرقية وبلغاريا وتشيكوسلافاكيا ورومانيا) و(لمعروفة باسم سقوط الشيوعية وانهيار الشيوعية وثورات أوروبا الشرقية وخريف الدول). حيث انخرطت في الحزب المسيحي الديمقراطي، الذي فتح لها المجال لتولي أعلى المناصب نتيجة قربها من الأب الروحي والراعي لها المستشار الألماني هلموت كول، حيث كانت البداية بالعمل كنائبة للمتحدث باسم أول حكومة منتخبة ديمقراطيا في ألمانيا الشرقية برئاسة لوثر دي مايتسيره في عام 1990. وبعد إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990، تم انتخاب ميركل في البوندستاغ عن ولاية مكلنبورغ-فوربومرن . وتوالت المناصب على أنغيلا ميركل حتى وصل بها المطاف أن تكون الأمين العام لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في عام 1998 قبل أن تصبح أول زعيمة للحزب بعد عامين في أعقاب فضيحة التبرعات التي أطاحت بفولفغانغ شويبله.
وفي سنة 2005 فازت مع حزبها بالانتخابات لتصبح أول مستشارة لتخلف بذلك غيرهارد شرودر المنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، لتشكل علامة فارقة في تاريخ ألمانيا كأول حكومة ديمقراطية تقودها سيدة.
ورغم أن بداية ميركل في إدارة الحكم في المانيا إتسم بالموضوعية البحتة و"التريث الموجه والمصبوغ بعقلانية محضة، أي( حالة من الجمود الموجه والمقنع) كما وصفها ريتشارد مينغ في كتابه "دولة ميركل ـ إلى أين تقود المستشارة ألمانيا؟" إلا أنها بدأ نجمها يلمع مع توالي مواقفها القوية تجاه العديد من القضايا المهمة رغم معارضة الكثير من المحيطين بها سواء داخل الحكومة الألمانية أو ضمن الأتحاد الأوروبي مثل إصرارها على ضرورة بقاء اليونان داخل منطقة اليورو وضرورة المحافظة على عملة اليورو كونه الأساس في عدم إنهيار الإتحاد الأروبي.
ميركل الإنسانة:
شكل القرار الإنساني التاريخي لأنغيلا ميركل عام 2015 بتعليق العمل باتفاقية دبلن( تنظم إجراءات منح حق اللجوء السياسي داخل الاتحاد الأوروبي) وفتح حدود بلادها أمام مئات الآلاف من اللاجئين انعطافة فارقة في حياة ميركل السياسية لما يشكله من مغامرة سياسية لما يمهد لتحول سيسيولوجي جوهري في بنية ألمانيا المحافظة. وقد أثار هذا القرار حفيظة بعض أعضاء دول الإتحاد الأوروبي وتيارات محلية سياسية محافظة ترفض مبدئياً واقع ألمانيا الجديدة، مما وجه انتقادات حادة لسياسة ميركل، ومنها إتهام الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك لها بتخليها عمّا يميز الدولة القومية الحديثة، وهو السيادة وقدرتها على السيطرة على حدودها، كما عبر الكاتب المعروف روديغر سافرانسكي عن مخاوفه ومشبهاً النخبة السياسية الألمانية بأنها لا تزال في "طور المراهقة" ولا تملك القدرة لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.
إلا أن المستشارة ميركل أغلبت الجانب الإنساني على أي جانب أخر بهذا القرار وهو ما أكدته بشكل واضح أثناء ردها على رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، خلال المؤتمر الذي ساده التوتر والانفعال بشأن المسؤوليات التي تقع على عاتق أوروبا تجاه اللاجئين ، "يجب ألا ننسى أن الأمر يتعلق ببشر.. بشر جاءوا إلينا وهذا يرتبط بالرسالة الأساسية لأوروبا.. الإنسانية وأعتقد أن جوهر أوروبا هو الإنسانية وإذا ما أردنا الحفاظ على هذا الجوهر والاضطلاع بدور فيما يتعلق بهذه القيم فيجب على أوروبا ألا تدير ظهرها للعوز والمعاناة".
نهاية حقبة ميركل:
وجهت من قبل ميركل آخر خطاب لها كرئيسة لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في 7 كانون الأول 2018 لتعلن انتهت ولايتها رسميا في المستشارية. كما أنها وبعد 16 عامًا بتاريخ 26 أيلول 2021 ترجلت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عن صهوة الحكم في ألمانيا، بعد مسيرة مفعمة بالعمل السياسي المرهق ومواكبة العديد من الأحداث السياسية والإنسانية الفارقة في العالم. وأشارت أنها لم يكن لديها الوقت الكافي للتفكير في الأمور التى قد تثير اهتمامها خلال الفترة المقبلة لذا فإنها بحاجة إلى الراحة والاستمتاع. ترجلت ميركل لكنها كسب المحبة والإحترام من قبل الجميع (مسؤولين، وشعوب، وزوج) فقد استطاعت أن توازن بين مسؤوليتها عن ملفات سياسية مهمة داخليًا وخارجيًا، وبين شخصها الإنسان الذي يقدر الناس ويحترم الحياة الاجتماعية، وبين الزوجة التي تضطلع بواجباتها الأسرية. أنغيلا ميركل التي راهنت على الإنسانية والحق كُرمت بأرفع الأوسمة من قادة الدول وحصلت على أعظم مكافأةٍ من شعوب العالم وشعبها وهي المحبة والإحترام، وهو ما ترجمه شعب ألمانيا تجاهها بست دقائق من التصفيق المتواصل عند وداعها لحزبها الذي ترأسه، وتوديع الجيش الألماني لها بآخر استعراض موسيقي عسكري.
ماذا بعد:
ميركل: حصلت للتو على الدكتوراه الفخرية من جامعة جونز هوبكنز الأمريكية: "بعذ ذلك، قد أحاول قراءة شيء ما، ثم أغلق عيناي لأنني متعبة، ثم سأنام قليلاً، لنرى بعد ذلك أين سأظهر". ميركل: قالت ميركل مؤخراً في برلين: "ما يفتقده المرء عادة، لا يلاحظه غالباً إلا عندما يفقده". ميركل: سأفهم سريعا جدا أن كل ذلك بات من مسؤولية شخص آخر، وأعتقد أن هذا الوضع سيحلو لي جدا".
ميركل: أتوقع أن أنام "مطمئنة" بعد أن يخلفها الاشتراكي الديموقراطي أولاف شولتس. ولكنها عبرت عن قلقها حيال الكثير من الأمور في الاتحاد الأوروبي كاستقلال القضاء وحرية الصحافة والتكنولوجيا الجديدة.
ميركل: "أترك الآن هذا الاتحاد الأوروبي بصفتي مستشارة في وضع يدعو إلى القلق"، وتابعت: "تخطينا الكثير من الأزمات من خلال الاحترام والجهود المبذولة لإيجاد حلول مشتركة، لكننا أمام سلسلة من المشكلات التي لم تلق حلا". ميركل: قلقها على قدرة الاتحاد الأوروبي التنافسية ولا سيما في مجال التكنولوجيا الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي، وقالت مبدية أسفها إن "أوروبا ليست القارة الأكثر ابتكاراً، وعلينا القيام بالكثير في هذا المجال". ميركل: سأبقى أتذكر عام 2015 عندما وصل إلى ألمانيا نحو 890 ألف مهاجر، بشكل خارج عن السيطرة، على أنه كان يمثل لها تحديا كبيرا.