كالدو..
باحث دكتوراة: عدنان متروك الشديفات
في الطفولة كنا نذهب الى الجمعية الخيرية وكانت مقراً لروضة للأطفال كانت فيها المراجيح جميلة وكانت كل عبارات الحب والغزل هناك حيث جدائل النشميات ،هناك ثمة شئ مهم وهو منهاج الروضة ...
لم نتعلم القراءة والحساب والقران بل تعلمنا العطاء ، في الطفولة مررنا على كل الخيوط التي رسمها الزمن على جبين الامهات , حينما كانت المربية عيدة تردد الايات التي لم نفهمها ، لم نتعلم الدين والصدق الا معها ، والسؤال الذي يحضرني منذ سنوات لماذا غابت كل المعدلات العالية عن مدارسنا منذ ان غابت عيدة عن الروضة ؟
ولماذا لم يدخل كليات الطب والهندسة أبناؤنا وبناتنا إلا من ربتهم عيدة ؟
بصراحة ... عيدة أقوى من كل المناهج الجديدة والقديمة واقوى من كل الفيزياء والكيمياء ... أقوى من كل التعديلات على كل المناهج ...حتى ابناؤنا ممن تخرجوا في أعرق الجامعات العالمية ...
بالامس مررت من جانب عيدة هي لم تتغير وكذلك نظراتها اليّ ... لم يتغير الحب وإن غابت بعض الجدائل فهي لا زالت تسألني حافظ الآيات أم لا ... في الطفولة تعلمنا كل ابجديات الحياة ...
تحية الى من علمتني السير على دروب الحرف والمنشية والحب وطريق الصبايا والجدائل ..كان قلبها هو الكتاب وكانت أصابعها الاقلام .. تحديداً في بداية الثمانينيات من القرن الماضي كانت بداياتنا انذاك وكنا اطفال يافعين يجمعنا الحب الطاهر ذكورا ً وإناث وكنا نذهب بخطى ثابته ومتعجلة ومعنا كان الحصادين المارين من هناك متوشحين بالكوفيات الحمراء متأبطين مناجلهم وزوادة فطورهم على أكتافهم، وكانت الطريق طريق بهجة وذكريات طريق الكادحين الذاهبين إلى مكان رعايتهم الأولى ، تقلنا إلى الروضة وكنا نلهو معاً على تلك الطريق وكانت انطباعاتنا وخواطرنا منقوشة على جوانب تلك الطريق حيث كانت قاعة للصف وقاعة للهو وقاعة للطعام كانت هناك طاولات وكراسي جميلة خبأت بين جنباتها كل مشاوير العشق الأولى .. وثمة أكواب مملوءة بالحليب والحب .. ذلك هو بوح القرى والخواطر الشفيفة
والحديث هنا ليس عن روضة ولا عن مباني بقدر ما هو حديث عن المناهج المدرسية ولكنه استحضار حقيقي لخارطة طريق تربوية خطتها لنا عيدة الحطاب أن اقرأ باسم ربك الذي خلق وهي أول البدايات ومن علمنا ابجديات الحرف عندما كنا نردد بصوت عال والأمهات متكئات يستمعن لنا من خلف جدار الظلال وسماعهن لنا مصدر صدق ويعلمن بأن عيدة تؤدي ما عليها من واجب تجاه الابناء ...
في البدايات علمتنا عيدة القرآن والآيات واللغة والحساب ورضعنا مع الحليب حب الوطن وألوان العلم لم نذهب الى مدارس عالمية لان قناعتنا بأن المنهاج واحد .. غرفة صفية واحدة تجمع كل الجدائل الحمراء والحب في زمن كان فيه خبز الجيش ازكى طعماً وكان الفوتيك هو ترويدة نشميات والحب ظاهراً لقطرات مطر أول الشتاء ورائحة تراب وطني اجمل من كل العطور الباريسية عشقنا الوطن والتفاصيل .. بلدي أخرجت شباب من الاطباء والمهندسين ... وكانت دائما عبارة تلصق على جدار مدارسنا وتؤجج للمنافسة الحقيقة بأن الراسبون لا احد هي فخرنا .. في قرية وادعة على حكايات المزمار والسعن والمهوان...حكاية الحصادين وسواليف واهازيج الجدات وجلسات البيادر وطريق الورادات تعج بالنشميات طريق العاشقين بعفة المخلصين ...
حينما ارى الحديث عن مناهج تربوية الى أين وصلت تتغير نظرتي للمكان والاشخاص والخواطر التي كانت مشربه بالبهجة حيناً وبالشجن حيناً اخر ... حينما استبدلت الروضة ومناهجنا ولم نعد نقرأ خلف السيدة عيدة الآيات والأرقام والفرح والشوق لتلك الروضة حينما تكون الامنيات والفخر تعود بي الأيام إلى تلك اللحظات وبودي العودة الى تلك التفاصيل التي تبقى عزيزة على كل اللذين مروا بها فمن يعرفها جيداً وله ذكرى فيها لابد حين يمر من امامها يشتم رائحة كل الطيبين الاوائل ... هناك ايها المشتاق للذاكرة تنصت الى ضحكة الصبايا النشميات وقلوبهن ملأ بالاسرار والحكايات ... لربما لتغيير المناهج واستبدالها حديث كبير ولكن لا زلت اخبئ لعيدة في قلبي كل الطيوب والنياشين ولها كرامة لدى اهالي المنشية ...